فصل: تفسير الآيات (28- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (28- 30):

{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)}
{لَئِنْ بَسَطْتَ} أي: مددت، {إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} قال عبد الله بن عمر: وايم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج أن يبسط إلى أخيه يده، وهذا في الشرع آدم جائز لمن أريد قتله أن ينقاد ويستسلم طلبا للأجر كما فعل عثمان رضي الله عنه، قال مجاهد: كتب عليهم في ذلك الوقت إذا أراد رجل قتل رجل أن لا يمتنع ويصبر.
{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ} ترجع، وقيل: تحتمل، {بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أي: بإثم قتلي إلى إثمك، أي: إثم معاصيك التي عملت من قبل، هذا قول أكثر المفسرين. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: معناه إني أريد أن يكون عليك خطيئتي التي عملتها أنا إذا قتلتني وإثمك فتبوء بخطيئتي ودمي جميعا، وقيل: معناه أن ترجع بإثم قتلي وإثم معصيتك التي لم يتقبل لأجلها قربانك، أو إثم حسدك.
فإن قيل: كيف قال إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك، وإرادة القتل والمعصية لا تجوز؟ قيل ليس ذلك بحقيقة إرادة ولكنه لما علم أنه يقتله لا محالة وطّن نفسه على الاستسلام طلبا للثواب فكأنه صار مريدا لقتله مجازا، وإن لم يكن مريدا حقيقة، وقيل: معناه إني أريد أن تبوء بعقاب قتلي فتكون إرادة صحيحة، لأنها موافقة لحكم الله عز وجل، فلا يكون هذا إرادة للقتل، بل لموجب القتل من الإثم والعقاب، {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}.
قوله عز وجل: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} أي: طاوعته وشايعته وعاونته، {قَتْلَ أَخِيهِ} أي في قتل أخيه، وقال مجاهد: فشجعته، وقال قتادة: فزينت له نفسه، وقال يمان: سهلت له نفسه ذلك، أي: جعلته سهلا تقديره: صوّرت له نفسه أن قتل أخيه طوع له أي سهل عليه، فقتله فلما قصد قابيل قتل هابيل لم يدر كيف يقتله، قال ابن جريج: فتمثل له إبليس وأخذ طيرا فوضع رأسه على حجر ثم شدخ رأسه بحجر آخر وقابيل ينظر إليه فعلّمه القتل، فرضخ قابيل رأس هابيل بين حجرين قيل: قتل وهو مستسلم، وقيل: اغتاله وهو في النوم فشدخ رأسه فقتله، وذلك قوله تعالى: {فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة.
واختلفوا في موضع قتله قيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم فاسودَّ جسم القاتل وسأله آدم عليه السلام عن أخيه فقال لم أكن عليه وكيلا فقال: بل قتلته ولذلك اسودَّ جسدك، مكث آدم مائة سنة لم يضحك قط منذ قتله.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: على جبل ثور وقيل عند عقبة حراء، فلما قتله تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به لأنه كان أول ميت على وجه الأرض من بني آدم، وقصدته السباع، فحمله في جراب على ظهره أربعين يوما، وقال ابن عباس: سنة، حتى أروح، وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمى به فتأكله، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم ألقاه في الحفرة وواراه، وقابيل ينظر إليه، فذلك قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيه}.

.تفسير الآية رقم (31):

{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)}
{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيه} فلما رأى قابيل ذلك قال يا ويلتا كلمة تحسر فقيل لما رأى الدفن من الغراب أنه أكبر علما منه وأن ما فعله كان جهلا فندم وتحسر {قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} أي: جيفته، وقيل: عورته لأنه قد سلب ثيابه، {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} على حمله على عاتقه لا على قتله، وقيل: على فراق أخيه، وقيل: ندم لقلة النفع بقتله فإنه أسخط والديه، وما انتفع بقتله شيئا ولم يكن ندمه على القتل وركوب الذنب.
قال عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب: لما قتل ابن آدم أخاه وجفت الأرض بما عليها سبعة أيام ثم شربت الأرض دمه كما يشرب الماء، فناداه آدم أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري ما كنت عليه رقيبا، فقال الله تعالى: إن دم أخيك ليناديني من الأرض، فلم قتلت أخاك؟ قال: فأين دمه إن كنت قتلته؟ فحرم الله عز وجل على الأرض يومئذ أن تشرب دما بعده أبدا.
وقال مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما قتل قابيل هابيل وآدم عليه السلام بمكة اشتاك الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه، وأمرّ الماء واغبرت الأرض، فقال آدم عليه السلام: قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل فأنشأ يقول وهو أول من قال الشعر: تغيرت البلاد ومن عليها ** فوجه الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي لون وطعم ** وقلّ بشاشة الوجه المليح

ورُوي: المليح.
ورُوي عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من قال إن آدم عليه السلام قال شعرا فقد كذب، إن محمدا صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم عليهم السلام في النهي عن الشعر سواء، ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سرياني، فلما قال آدم مرثيته قال لشيث: يا بني إنك وصي احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرق الناس عليه، لم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو أول من خط بالعربية، وكان يقول الشعر فنظر في المرثية فرد المقدم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدم، فوزنه شعرا وزاد فيه أبيات منها:
وما لي لا أجود بسكب دمع ** وهابيل تضمنه الضريح

أرى طول الحياة عليّ غما ** فهل أنا من حياتي مستريح

فلما مضى من عمر آدم عليه السلام مائة وثلاثون سنة، وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حواء شيثا، وتفسيره: هبة الله، يعني إنه خلف من هابيل علّمه الله تعالى ساعات الليل والنهار، وعلّمه عبادة الخلق في كل ساعة منها، وأنزل عليه خمسين صحيفة فصار وصي آدم وولي عهده، وأما قابيل فقيل له اذهب طريدا شريدا فزعا مرعوبا لا تأمن من تراه، فأخذ بيد أخته أقليما وهرب بها إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس فقال له إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يعبد النار فانصب أنت نارا أيضا تكون لك ولعقبك، فبنى بيتا للنار فهو أول من عبد النار، وكان لا يمر به أحد إلا رماه، فأقبل ابن له أعمى ومعه ابن له، فقال ابنه: هذا أبوك قابيل، مرمى الأعمى أباه فقتله، فقال ابن الأعمى: قتلت أباك؟ فرفع يده فلطم ابنه، فمات فقال الأعمى: ويل لي قتلت أبي برميتي وقتلت ابني بلطمتي.
وقال مجاهد: فعلقت إحدى رجلي قابيل إلى فخدها وساقها وعلقت من يومئذ إلى يوم القيامة ووجهه إلى الشمس ما دارت عليه، في الصيف حظيرة من نار وفي الشتاء حظيرة من ثلج.
قال: واتخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع والطبول والمزامير والعيدان والطنابير، وانهمكوا في اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنا والفواحش حتى غرّقهم الله بالطوفان أيام نوح عليه السلام، وبقي نسل شيث.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل أنا عمر بن حفص بن غياث ثنا أبي ثنا الأعمش حدثني عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سنّ القتل».

.تفسير الآية رقم (32):

{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)}
قوله عز وجل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} قرأ أبو جعفر من أجل ذلك بكسر النون موصولا وقراءة العامة بجزم النون، أي: من جراء ذلك القاتل وجنايته، يقال: أجل يأجل أجلا إذا جنى، مثل أخذ يأخذ أخذا، {كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ} قتلها فيقاد منه، {أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ} يريد بغير نفس وبغير فساد في الأرض من كفر أو زنا أو قطع طريق، أو نحو ذلك {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} اختلفوا في تأويلها، قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عكرمة: من قتل نبيا أو إماما عدلا فكأنما قتل الناس جميعا، ومن شدّ عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا.
قال مجاهد: من قتل نفسا محرمة يصلى النار بقتلها، كما يصلاها لو قتل الناس جميعا {ومن أحياها} من سلم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعا.
قال قتادة: عظم الله أجرها وعظّم وزرها، معناه من استحل قتل مسلم بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا في الإثم لأنهم لا يسلمون منه، {وَمَنْ أَحْيَاهَا} وتورع عن قتلها، {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} في الثواب لسلامتهم منه. قال الحسن: فكأنما قتل الناس جميعا يعني: أنه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعا، ومن أحياها: أي عُفِي عمن وجب عليه القصاص له فلم يقتله فكأنما أحيا الناس جميعا، قال سليمان بن علي قلت للحسن: يا أبا سعيد: هي لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ قال: إي والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا، {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ}.

.تفسير الآية رقم (33):

{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)}
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا} الآية. قال الضحاك: نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض.
وقال الكلبي: نزلت في قوم هلال بن عويمر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وداع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه، وممن مرّ بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاج، فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من أسلم من قوم هلال بن عويمر، ولم يكن هلال شاهدا فشدوا عليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فنزل جبريل عليه السلام بالقضاء فيهم، وقال سعيد بن جبير: نزلت في ناس من عُرَيْنَة وعُكْل أتو النبي صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة، فارتدوا وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا علي بن عبد الله ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو قلابة الجرمي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم نفر من عُكْل فأسلموا واجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا فصحوا فارتدوا وقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسَمَل أعينهم ثم لم يحسمهم حتى ماتوا.
ورواه أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال: فقطع أيديهم وأرجلهم ثم أمر بمسامير فكحلهم بها وطرحهم بالحرة يستسقون فما يسقون حتى ماتوا، قال أبو قلابة: قتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا وهو المراد من قوله تعالى: {ويسعون في الأرض فسادا}.
واختلفوا في حكم هؤلاء العرنيين: فقال بعضهم: هي منسوخة لأن المثلة لا تجوز، وقال بعضهم: حكمه ثابت إلا السمل والمثلة وروى قتادة عن ابن سيرين أن ذلك كان قبل أن ينزل الحد وقال أبو الزناد: فلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بهم أنزل الله الحدود ونهاه عن المثلة فلم يعد.
وعن قتادة قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة وقال سليمان التيمي عن أنس: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سلموا أعين الرعاة. وقال الليث بن سعد: نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليما منه إياه عقوبتهم، وقال: إنما جزاؤهم هذا لا المثلة، ولذلك ما قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا إلا نهى عن المثلة.
واختلفوا في المحاربين الذين يستحقون هذا الحد، فقال قوم: هم الذين يقطعون الطريق ويحملون السلاح، والمكابرون في الأمصار، وهو قول الأوزاعي ومالك والليث بن سعد والشافعي رحمهم الله.
وقال قوم: المكابرون في الأمصار ليس لهم حكم المحاربين في استحقاق هذه الحدود وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه.
وعقوبة المحاربين ما ذكر الله سبحانه وتعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ} فذهب قوم إلى أن الإمام بالخيار في أمر المحاربين بين القتل والقطع والصلب، والنفي كما هو ظاهر الآية، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والنخعي ومجاهد.
وذهب الأكثرون إلى أن هذه العقوبات على ترتيب الجرائم لا على التخيير، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمدد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن صالح مولى التوأمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، فإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض.
وهو قول قتادة والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي رحمهم الله تعالى.
وإذا قتل قاطع الطريق يُقتل حتما حتى لا يسقط بعفو ولي الدم، وإذا أخذ من المال نصابا وهو ربع دينار تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، وإذا قتل وأخذ المال يُقتل ويُصلب.
واختلفوا في كيفيته: فظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه أن يقتل ثم يصلب وقيل: يصلب حيا ثم يطعن حتى يموت مصلوبا، وهو قول الليث بن سعد، وقيل: يصلب ثلاثة أيام حيا ثم ينزل فيقتل، وإذا أخاف السبيل ينفى.
واختلفوا في النفي: فذهب قوم إلى أن الإمام يطلبه ففي كل بلدة يوجد ينفى عنه، وهو قول سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز، وقيل: يطلب لتقام الحدود عليه، وهو قول ابن عباس والليث بن سعد، وبه قال الشافعي: وقال أهل الكوفة: النفي هو الحبس، وهو نفي من الأرض، وقال محمد بن جرير: ينفى من بلده إلى غيره ويحبس في السجن في البلد الذي نُفي إليه حتى تظهر توبته. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون وقال: أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه إلى بلد فيؤذيهم، {ذَلِكَ} الذي ذكرت من الحد، {لَهُمْ خِزْي} عذاب وهوان وفضيحة، {فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.